فصل: الفصل الأول: إذا غاب الأقرب غيبة منقطعة فللأبعد من عصبتها تزويجها

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **


مسألة‏:‏

قال‏:‏ وإذا كان وليها غائبا في موضع لا يصل إليه الكتاب‏,‏ أو يصل فلا يجيب عنه زوجها من هو أبعد منه من عصباتها فإن لم يكن‏,‏ فالسلطان

الكلام في هذه المسألة في فصلين‏:‏

الفصل الأول‏:‏

أن الأقرب إذا غاب غيبة منقطعة فللأبعد من عصبتها تزويجها دون الحاكم وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي‏:‏ يزوجها الحاكم لأنه تعذر الوصول إلى النكاح من الأقرب مع بقاء ولايته‏,‏ فيقوم الحاكم مقامه كما لو عضلها ولأن الأبعد محجوب بولاية الأقرب‏,‏ فلا يجوز له التزويج كما لو كان حاضرا ودليل بقاء ولايته أنه لو زوج من حيث هو‏,‏ أو وكل صح ولنا قوله عليه السلام ‏(‏‏(‏ السلطان ولي من لا ولي له ‏)‏‏)‏ وهذه لها ولي‏,‏ فلا يكون السلطان وليا لها ولأن الأقرب تعذر حصول التزويج منه فتثبت الولاية لمن يليه من العصبات‏,‏ كما لو جن أو مات ولأنها حالة يجوز فيها التزويج لغير الأقرب فكان ذلك للأبعد‏,‏ كالأصل وإذا عضلها الأقرب فهو كمسألتنا‏.‏

والفصل الثاني‏:‏

في الغيبة المنقطعة‏,‏ التي يجوز للأبعد التزويج في مثلها ففي قول الخرقي‏:‏ هي من لا يصل إليه الكتاب أو يصل فلا يجيب عنه لأن مثل هذا تتعذر مراجعته بالكلية فتكون منقطعة‏,‏ أي ينقطع عن إمكان تزويجها وقال القاضي‏:‏ يجب أن يكون حد المسافة أن لا تردد القوافل فيه في السنة إلا مرة لأن الكفء ينتظر سنة ولا ينتظر أكثر منها فيلحق الضرر بترك تزويجها وقد قال أحمد في موضع‏:‏ إذا كان الأب بعيد السفر‏,‏ يزوج الأخ قال أبو الخطاب‏:‏ فيحتمل أنه أراد بالسفر البعيد ما تقصر فيه الصلاة لأن ذلك هو السفر الذي علقت عليه الأحكام وذهب أبو بكر إلى أن حدها ما لا يقطع إلا بكلفة ومشقة لأن أحمد قال‏:‏ إذا لم يكن ولي حاضر من عصبتها كتب إليهم حتى يأذنوا إلا أن تكون غيبة منقطعة‏,‏ لا تدرك إلا بكلفة ومشقة فالسلطان ولي من لا ولي له وهذا القول -إن شاء الله تعالى- أقربها إلى الصواب‏,‏ فإن التحديدات بابها التوقيف ولا توقيف في هذه المسألة فترد إلى ما يتعارفه الناس بينهم‏,‏ مما لم تجر العادة بالانتظار فيه ويلحق المرأة الضرر بمنعها من التزويج في مثله فإنه يتعذر في ذلك الوصول إلى المصلحة من نظر الأقرب‏,‏ فيكون كالمعدوم والتحديد بالعام كبير فإن الضرر يلحق بالانتظار في مثل ذلك ويذهب الخاطب‏,‏ ومن لا يصل الكتاب منه أبعد ومن هو على مسافة القصر لا تلحق المشقة في مكاتبته والتوسط أولى والله أعلم واختلف أصحاب أبي حنيفة في الغيبة المنقطعة فقال بعضهم كقول القاضي‏,‏ وبعضهم قال‏:‏ من الرى إلى بغداد وبعضهم قال‏:‏ من البصرة إلى الرقة وهذان القولان يشبهان قول أبي بكر واختلف أصحاب الشافعي في الغيبة التي يزوج فيها الحاكم فقال بعضهم‏:‏ مسافة القصر وقال بعضهم‏:‏ يزوجها الحاكم وإن كان الولي قريبا وهو ظاهر نص الشافعي وظاهر كلام أحمد‏,‏ أنه إذا كانت الغيبة غير منقطعة أنه ينتظر ويراسل حتى يقدم أو يوكل‏.‏

فصل‏:‏ وإن كان القريب محبوسا أو أسيرا في مسافة قريبة‏,‏ لا تمكن مراجعته فهو كالبعيد فإن البعد لم يعتبر لعينه‏,‏ بل لتعذر الوصول إلى التزويج بنظره وهذا موجود ها هنا وكذلك إن كان غائبا لا يعلم أقريب أم بعيد‏,‏ أو علم أنه قريب ولم يعلم مكانه فهو كالبعيد‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ وإذا زوجت من غير كفء‏,‏ فالنكاح باطل

اختلفت الرواية عن أحمد في اشتراط الكفاءة لصحة النكاح فروي عنه أنها شرط له قال‏:‏ إذا تزوج المولى العربية فرق بينهما وهذا قول سفيان وقال أحمد في الرجل يشرب الشراب‏:‏ ما هو بكفء لها يفرق بينهما وقال‏:‏ لو كان المتزوج حائكا فرقت بينهما لقول عمر رضي الله عنه‏:‏ لأمنعن فروج ذوات الأحساب‏,‏ إلا من الأكفاء رواه الخلال بإسناده وعن أبي إسحاق الهمداني قال‏:‏ خرج سلمان وجرير في سفر فأقيمت الصلاة فقال جرير لسلمان‏:‏ تقدم أنت قال سلمان‏:‏ بل أنت تقدم‏,‏ فإنكم معشر العرب لا يتقدم عليكم في صلاتكم ولا تنكح نساؤكم إن الله فضلكم علينا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وجعله فيكم ولأن التزويج‏,‏ مع فقد الكفاءة تصرف في حق من يحدث من الأولياء بغير إذنه فلم يصح‏,‏ كما لو زوجها بغير إذنها وقد روى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ‏(‏‏(‏ لا تنكحوا النساء إلا من الأكفاء ولا يزوجهن إلا الأولياء ‏)‏‏)‏ رواه الدارقطني إلا أن ابن عبد البر قال‏:‏ هذا ضعيف‏,‏ لا أصل له ولا يحتج بمثله والرواية الثانية عن أحمد أنها ليست شرطا في النكاح وهذا قول أكثر أهل العلم روى نحو هذا عن عمر وابن مسعود وعمر بن عبد العزيز وعبيد بن عمير وحماد بن أبي سليمان وابن سيرين وابن عون ومالك والشافعي وأصحاب الرأي لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ إن أكرمكم عند الله أتقاكم ‏}‏ وقالت عائشة رضي الله عنها إن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة تبنى سالما‏,‏ وأنكحه ابنة أخيه هند ابنة الوليد بن عتبة وهو مولى لامرأة من الأنصار‏:‏ أخرجه البخاري ‏(‏‏(‏ وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فاطمة بنت قيس أن تنكح أسامة بن زيد مولاه فنكحها بأمره ‏)‏‏)‏ متفق عليه ‏(‏‏(‏ وزوج أباه زيد بن حارثة ابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية ‏)‏‏)‏ وقال ابن مسعود لأخته‏:‏ أنشدك الله أن تتزوجى مسلما‏,‏ وإن كان أحمر روميا أو أسود حبشيا ولأن الكفاءة لا تخرج عن كونها حقا للمرأة أو الأولياء‏,‏ أو لهما فلم يشترط وجودها كالسلامة من العيوب وقد روى ‏(‏‏(‏ أن أبا هند حجم النبي -صلى الله عليه وسلم- في اليافوخ‏,‏ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ يا بني بياضة أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه ‏)‏‏)‏ رواه أبو داود‏,‏ إلا أن أحمد ضعفه وأنكره إنكارا شديدا والصحيح أنها غير مشترطة وما روى فيها يدل على اعتبارها في الجملة‏,‏ ولا يلزم منه اشتراطها وذلك لأن للزوجة ولكل واحد من الأولياء فيها حقا ومن لم يرض منهم فله الفسخ ولذلك لما زوج رجل ابنته من ابن أخيه ليرفع بها خسيسته‏,‏ جعل لها النبي -صلى الله عليه وسلم- الخيار فأجازت ما صنع أبوها ولو فقد الشرط لم يكن لها خيار فإذا قلنا باشتراطها فإنما يعتبر وجودها حال العقد‏,‏ فإن عدمت بعده لم يبطل النكاح لأن شروط النكاح إنما تعتبر لدى العقد وإن كانت معدومة حال العقد فالنكاح فاسد‏,‏ حكمه حكم العقود الفاسدة على ما مضى فإن قلنا‏:‏ ليست شرطا فرضيت المرأة والأولياء كلهم صح النكاح‏,‏ وإن لم يرض بعضهم فهل يقع العقد باطلا من أصله أو صحيحا‏؟‏ فيه روايتان عن أحمد وقولان للشافعي أحدهما هو باطل لأن الكفاءة حق لجميعهم‏,‏ والعاقد متصرف فيها بغير رضاهم فلم يصح كتصرف الفضولي‏.‏

والثانية‏,‏ هو صحيح بدليل أن المرأة التي رفعت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أباها زوجها من غير كفئها خيرها ولم يبطل النكاح من أصله ولأن العقد وقع بالإذن والنقص الموجود فيه لا يمنع صحته‏,‏ وإنما يثبت الخيار كالعيب من العنة وغيرها فعلى هذه الرواية لمن لم يرض الفسخ وبهذا قال الشافعي ومالك وقال أبو حنيفة إذا رضيت المرأة وبعض الأولياء لم يكن لباقى الأولياء فسخ لأن هذا الحق لا يتجزأ‏,‏ وقد أسقط بعض الشركاء حقه فسقط جميعه كالقصاص ولنا‏,‏ أن كل واحد من الأولياء يعتبر رضاه فلم يسقط برضا غيره كالمرأة مع الولي فأما القصاص فلا يثبت لكل واحد كاملا‏,‏ فإذا سقط بعضه تعذر استيفاؤه وهاهنا بخلافه‏,‏ ولأنه لو زوجها بدون مهر مثلها ملك الباقون عندهم الاعتراض مع أنه خالص حقها‏,‏ فهاهنا مع أنه حق لهم أولى وسواء كانوا متساوين في الدرجة أو متفاوتين فزوج الأقرب‏,‏ مثل أن يزوج الأب بغير كفء فإن للإخوة الفسخ وقال مالك والشافعي ليس لهم فسخ إذا زوج الأقرب لأنه لا حق للأبعد معه فرضاؤه لا يعتبر ولنا‏,‏ أنه ولي في حال يلحقه العار بفقد الكفاءة فملك الفسخ كالمتساويين‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ والكفء ذو الدين والمنصب يعني بالمنصب الحسب وهو النسب

واختلفت الرواية عن أحمد في شروط الكفاءة‏,‏ فعنه هما شرطان الدين والمنصب لا غير وعنه أنها خمسة هذان‏,‏ والحرية والصناعة واليسار وذكر القاضي‏,‏ في ‏(‏‏(‏ المجرد ‏)‏‏)‏ أن فقد هذه الثلاثة لا يبطل النكاح رواية واحدة وإنما الروايتان في الشرطين الأولين قال‏:‏ ويتوجه أن المبطل عدم الكفاءة في النسب لا غير لأنه نقص لازم‏,‏ وما عداه غير لازم ولا يتعدى نقصه إلى الولد وذكر في ‏(‏‏(‏ الجامع ‏)‏‏)‏ الروايتين في جميع الشروط وذكره أبو الخطاب أيضا وقال مالك‏:‏ الكفاءة في الدين لا غير قال ابن عبد البر‏:‏ هذا جملة مذهب مالك وأصحابه وعن الشافعي كقول مالك وقول آخر أنها الخمسة التي ذكرناها‏,‏ والسلامة من العيوب الأربعة فتكون ستة وكذلك قول أبي حنيفة والثوري‏,‏ والحسن بن حي إلا في الصنعة والسلامة من العيوب الأربعة ولم يعتبر محمد بن الحسن الدين إلا أن يكون ممن يسكر ويخرج ويسخر منه الصبيان فلا يكون كفؤا لأن الغالب على الجند الفسق‏,‏ ولا يعد ذلك نقصا والدليل على اعتبار الدين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ‏}‏ ولأن الفاسق مرذول مردود الشهادة والرواية غير مأمون على النفس والمال‏,‏ مسلوب الولايات ناقص عند الله تعالى وعند خلقه قليل الحظ في الدنيا والآخرة‏,‏ فلا يجوز أن يكون كفؤا لعفيفة ولا مساويا لها لكن يكون كفؤا لمثله فأما الفاسق من الجند‏,‏ فهو ناقص عند أهل الدين والمروآت والدليل على اعتبار النسب في الكفاءة قول عمر رضي الله عنه‏:‏ لأمنعن فروج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء قال‏:‏ قلت‏:‏ وما الأكفاء‏؟‏ قال في الحسب رواه أبو بكر عبد العزيز بإسناده ولأن العرب يعدون الكفاءة في النسب‏,‏ ويأنفون من نكاح الموالى ويرون ذلك نقصا وعارا فإذا أطلقت الكفاءة‏,‏ وجب حملها على المتعارف ولأن في فقد ذلك عارا ونقصا فوجب أن يعتبر في الكفاءة كالدين‏.‏

فصل‏:‏

واختلفت الرواية عن أحمد‏,‏ فروي عنه أن غير قريش من العرب لا يكافئها وغير بني هاشم لا يكافئهم وهذا قول بعض أصحاب الشافعي لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى من كنانة قريشا‏,‏ واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم ‏)‏‏)‏ ولأن العرب فضلت على الأمم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقريش أخص به من سائر العرب وبنو هاشم أخص به من قريش وكذلك قال عثمان وجبير بن مطعم إن إخواننا من بني هاشم لا ننكر فضلهم علينا‏,‏ لمكانك الذي وضعك الله به منهم وقال أبو حنيفة لا تكافئ العجم العرب ولا العرب قريشا وقريش كلهم أكفاء لأن ابن عباس قال‏:‏ قريش بعضهم أكفاء بعض والرواية الثانية عن أحمد أن العرب بعضهم لبعض أكفاء والعجم بعضهم لبعض أكفاء لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- زوج ابنتيه عثمان‏,‏ وزوج أبا العاص بن الربيع زينب وهما من بني عبد شمس وزوج على عمر ابنته أم كلثوم‏,‏ وتزوج عبد الله بن عمرو بن عثمان فاطمة بنت الحسين بن على وتزوج المصعب بن الزبير أختها سكينة وتزوجها أيضا عبد الله بن عثمان بن حكيم بن حزام‏,‏ وتزوج المقداد بن الأسود ضباعة ابنة الزبير بن عبد المطلب ابنة عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وزوج أبو بكر أخته أم فروة الأشعث بن قيس وهما كنديان وتزوج أسامة بن زيد فاطمة بنت قيس‏,‏ وهي من قريش ولأن العجم والموالى بعضهم لبعض أكفاء وإن تفاضلوا‏,‏ وشرف بعضهم على بعض فكذلك العرب‏.‏

فصل‏:‏

فأما الحرية فالصحيح أنها من شروط الكفاءة‏,‏ فلا يكون العبد كفؤا لحرة لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- خير بريرة حين عتقت تحت عبد فإذا ثبت الخيار بالحرية الطارئة فبالحرية المقارنة أولى ولأن نقص الرق كبير وضرره بين‏,‏ فإنه مشغول عن امرأته بحقوق سيده ولا ينفق نفقة الموسرين ولا ينفق على ولده‏,‏ وهو كالمعدوم بالنسبة إلى نفسه ولا يمنع صحة النكاح فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏‏(‏ قال لبريرة‏:‏ لو راجعتيه قالت‏:‏ يا رسول الله أتأمرني‏؟‏ قال‏:‏ إنما أنا شفيع قالت‏:‏ فلا حاجة لي فيه ‏)‏‏)‏ رواه البخاري ومراجعتها له ابتداء النكاح فإنه قد انفسخ نكاحها باختيارها‏,‏ ولا يشفع إليها النبي -صلى الله عليه وسلم- في أن تنكح عبدا إلا والنكاح صحيح‏.‏

فصل‏:‏

فأما اليسار ففيه روايتان إحداهما هو شرط في الكفاءة لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏‏(‏ الحسب المال وقال‏:‏ إن أحساب الناس بينهم في هذه الدنيا هذا المال وقال لفاطمة بنت قيس‏,‏ حين أخبرته أن معاوية خطبها‏:‏ أما معاوية فصعلوك لا مال له ‏)‏‏)‏ ولأن على الموسرة ضررا في إعسار زوجها لإخلاله بنفقتها ومؤنة أولادها ولهذا ملكت الفسخ بإخلاله بالنفقة‏,‏ فكذلك إذا كان مقارنا ولأن ذلك معدود نقصا في عرف الناس يتفاضلون فيه كتفاضلهم في النسب وأبلغ‏,‏ قال نبيه بن الحجاج السهمى‏:‏

سألتاني الطلاق أن رأتاني ** قل مالى قد جئتماني بنكر

ويكأن من له نشب محبب ** ومن يفتقر يعش عيش ضر

فكان من شروط الكفاءة كالنسب والرواية الثانية ليس بشرط لأن الفقر شرف في الدين‏,‏ وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏‏(‏ اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا ‏)‏‏)‏ وليس هو أمرا لازما فأشبه العافية من المرض‏,‏ واليسار المعتبر ما يقدر به على الإنفاق عليها حسب ما يجب لها ويمكنه أداء مهرها‏.‏

فصل‏:‏

فأما الصناعة‏,‏ ففيها روايتان أيضا إحداهما أنها شرط فمن كان من أهل الصنائع الدنيئة‏,‏ كالحائك والحجام والحارس‏,‏ والكساح والدباغ والقيم‏,‏ والحمامى والزبال فليس بكفء لبنات ذوى المروءات‏,‏ أو أصحاب الصنائع الجليلة كالتجارة والبناية لأن ذلك نقص في عرف الناس‏,‏ فأشبه نقص النسب وقد جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏‏(‏ العرب بعضهم لبعض أكفاء إلا حائكا‏,‏ أو حجاما ‏)‏‏)‏ قيل لأحمد -رحمه الله-‏:‏ وكيف تأخذ به وأنت تضعفه‏؟‏ قال‏:‏ العمل عليه يعني أنه ورد موافقا لأهل العرف وروى أن ذلك ليس بنقص ويروى نحو ذلك عن أبي حنيفة لأن ذلك ليس بنقص في الدين ولا هو لازم‏,‏ فأشبه الضعف والمرض قال بعضهم‏:‏

ألا إنما التقوى هي العز والكرم ** وليس على عبد تقى نقيصة

وحبك للدنيا هو الذل والسقم ** إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم

وأما السلامة من العيوب فليس من شروط الكفاءة‏,‏ فإنه لا خلاف في أنه لا يبطل النكاح بعدمها ولكنها تثبت الخيار للمرأة دون الأولياء لأن ضرره مختص بها ولوليها منعها من نكاح المجذوم والأبرص والمجنون وما عدا هذا فليس بمعتبر في الكفاءة‏.‏

فصل‏:‏

من أسلم أو عتق من العبيد‏,‏ فهو كفء لمن له أبوان في الإسلام والحرية وقال أبو حنيفة‏:‏ ليس بكفء وليس بصحيح فإن الصحابة رضي الله عنهم أكثرهم أسلموا وكانوا أفضل الأمة‏,‏ فلا يجوز أن يقال‏:‏ إنهم غير أكفاء للتابعين‏.‏

فصل‏:‏

فأما ولد الزنا فيحتمل أن لا يكون كفؤا لذات نسب فإن أحمد -رحمه الله- ذكر له أنه ينكح وينكح إليه‏؟‏ فكأنه لم يجب وذلك لأن المرأة تعير به هي وأولياؤها ويتعدى ذلك إلى ولدها وأما كونه ليس بكفء لعربية‏,‏ فلا إشكال فيه لأنه أدنى حالا من المولى‏.‏

فصل‏:‏

والموالى بعضهم لبعض أكفاء وكذلك العجم قال أحمد -رحمه الله- في رجل من بني هاشم له مولاة‏:‏ يزوجها الخراساني‏,‏ وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏‏(‏ موالى القوم من أنفسهم ‏)‏‏)‏ هو في الصدقة فأما في النكاح فلينكح وذكر القاضي رواية عن أحمد أن مولى القوم يكافئهم لهذا الخبر ‏(‏‏(‏ ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- زوج زيدا وأسامة عربيتين‏,‏ ‏)‏‏)‏ ولأن موالى بني هاشم ساووهم في حرمان الصدقة فيساوونهم في الكفاءة وليس هذا بصحيح فإنه يوجب أن يكون الموالى أكفاء للعرب فإن المولى إذا كان كفء سيده كان كفؤا لمن يكافئه سيده‏,‏ فيبطل اعتبار المنصب وقد قال أحمد هذا الحديث في الصدقة لا في النكاح ولهذا لا يساوونهم في استحقاق الخمس‏,‏ ولا في الإمامة ولا في الشرف وأما زيد وأسامة فقد استدل بنكاحهما عربيتين على أن فقد الكفاءة لا يبطل النكاح‏,‏ واعتذر أحمد عن تزويجهما بأنهما عربيان فإنهما من كلب‏,‏ وإنما طرأ عليهما رق فعلى هذا يكون هذا حكم كل عربى الأصل‏.‏

فصل‏:‏

فأما أهل البدع فإن أحمد قال في الرجل يزوج الجهمى‏:‏ يفرق بينهما وكذلك إذا زوج الواقفى إذا كان يخاصم ويدعو‏,‏ وإذا زوج أخته من هؤلاء اللفظية وقد كتب الحديث فهذا شر من جهمي‏,‏ يفرق بينهما وقال‏:‏ لا يزوج بنته من حرورى مرق من الدين ولا من الرافضي ولا من القدري‏,‏ فإذا كان لا يدعو فلا بأس وقال‏:‏ من لم يربع بعلى في الخلافة فلا تناكحوه ولا تكلموه قال القاضي‏:‏ المقلد منهم يصح تزويجه‏,‏ ومن كان داعية منهم فلا يصح تزويجه‏.‏

فصل‏:‏

والكفاءة معتبرة في الرجل دون المرأة فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا مكافئ له وقد تزوج من أحياء العرب وتزوج صفية بنت حيي‏,‏ وتسرى بالإماء وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ من كانت عنده جارية فعلمها‏,‏ وأحسن تعليمها وأحسن إليها ثم أعتقها وتزوجها‏,‏ فله أجران ‏)‏‏)‏ متفق عليه ولأن الولد يشرف بشرف أبيه لا بأمه فلم يعتبر ذلك في الأم‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ وليس هذا لغير الأب

يعني ليس لغير الأب إجبار كبيرة‏,‏ ولا تزويج صغيرة جدا كان أو غيره وبهذا قال مالك وأبو عبيد والثوري‏,‏ وابن أبي ليلى وبه قال الشافعي إلا في الجد فإنه جعله كالأب لأن ولايته ولاية إيلاد فملك إجبارها كالأب وقال الحسن‏,‏ وعمر بن عبد العزيز وعطاء وطاوس‏,‏ وقتادة وابن شبرمة والأوزاعي‏,‏ وأبو حنيفة‏:‏ لغير الأب تزويج الصغيرة ولها الخيار إذا بلغت وقال هؤلاء غير أبي حنيفة‏:‏ إذا زوج الصغيرين غير الأب فلهما الخيار إذا بلغا قال أبو الخطاب‏:‏ وقد نقل عبد الله‏,‏ عن أبيه كقول أبي حنيفة لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ‏}‏ فمفهومه أنه إذا لم يخف فله تزويج اليتيمة‏,‏ واليتيم من لم يبلغ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏‏(‏ لا يتم بعد احتلام ‏)‏‏)‏ قال عروة‏:‏ سألت عائشة عن قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ‏}‏ فقالت‏:‏ يا ابن أختى هذه اليتيمة تكون في حجر وليها فيشركها في مالها‏,‏ ويعجبه مالها وجمالها فيريد أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره‏,‏ فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا فيهن ويبلغوا أعلى سنتهن في الصداق متفق عليه ولأنه ولي في النكاح فملك التزويج كالأب ولنا‏,‏ قول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏‏(‏ تستأمر اليتيمة في نفسها فإن سكتت فهو إذنها وإن أبت‏,‏ فلا جواز عليها ‏)‏‏)‏ رواه أبو داود والنسائي وروى ابن عمر ‏(‏‏(‏ أن قدامة بن مظعون زوج ابن عمر ابنة أخيه عثمان فرفع ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏ إنها يتيمة‏,‏ ولا تنكح إلا بإذنها ‏)‏‏)‏ واليتيمة‏:‏ الصغيرة التي مات أبوها ولأن غير الأب قاصر الشفقة فلا يلي نكاح الصغيرة كالأجنبي‏,‏ وغير الجد لا يلي مالها فلا يستبد بنكاحها كالأجنبي ولأن الجد يدلى بولاية غيره‏,‏ فأشبه سائر العصبات وفارق الأب فإنه يدلى بغير واسطة‏,‏ ويسقط الإخوة والجد ويحجب الأم عن ثلث المال إلى ثلث الباقي في زوج وأبوين أو زوجة وأبوين والآية محمولة على البالغة بدليل قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ تؤتونهن ما كتب لهن ‏}‏ وإنما يدفع إلى الكبيرة أو نحملها على بنت تسع‏.‏

فصل‏:‏

وإذا بلغت الجارية تسع سنين‏,‏ ففيها روايتان إحداهما أنها كمن لم تبلغ تسعا نص عليه في رواية الأثرم وهو قول مالك‏,‏ والشافعي وأبي حنيفة وسائر الفقهاء قالوا‏:‏ حكم بنت تسع سنين حكم بنت ثمان لأنها غير بالغة‏,‏ ولأن إذنها لا يعتبر في سائر التصرفات فكذلك في النكاح والرواية الثانية حكمها حكم البالغة نص عليه في رواية ابن منصور لمفهوم الآية‏,‏ ودلالة الخبر بعمومها على أن اليتيمة تنكح بإذنها وإن أبت فلا جواز عليها‏,‏ وقد انتفى به الإذن في من دونها فيجب حمله على من بلغت تسعا وقد روى الإمام أحمد بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏ إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة ورواه القاضي بإسناده عن ابن عمر‏,‏ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بمعناه‏:‏ في حكم المرأة ولأنها بلغت سنا يمكن فيه حيضها ويحدث لها حاجة إلى النكاح فيباح تزويجها كالبالغة فعلى هذا إذا زوجت ثم بلغت‏,‏ لم يكن لها خيار كالبالغة إذا زوجت وقد خطب عمر رضي الله عنه أم كلثوم ابنة أبي بكر بعد موته إلى عائشة رضي الله عنها فأجابته وهي لدون عشر‏,‏ لأنها إنما ولدت بعد موت أبيها وإنما كانت ولاية عمر عشرا فكرهته الجارية‏,‏ فتزوجها طلحة بن عبيد الله ولم ينكره منكر فدل على اتفاقهم على صحة تزويجها قبل بلوغها بولاية غير أبيها والله أعلم‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ولو استأذن البكر البالغة والدها‏,‏ كان حسنا

لا نعلم خلافا في استحباب استئذانها فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أمر به ونهى عن النكاح بدونه‏,‏ وأقل أحوال ذلك الاستحباب ولأن فيه تطييب قلبها وخروجا من الخلاف وقالت عائشة‏:‏ سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الجارية ينكحها أهلها‏,‏ أتستأمر أم لا‏؟‏ فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم تستأمر‏)‏‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ استأمروا النساء في أبضاعهن فإن البكر تستحيى فتسكت‏,‏ فهو إذنها ‏)‏‏)‏ متفق عليهما وروي عن عطاء قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستأمر بناته إذا أنكحهن قال‏:‏ كان يجلس عند خدر المخطوبة فيقول‏:‏ إن فلانا يذكر فلانة فإن حركت الخدر لم يزوجها‏,‏ وإن سكتت زوجها ‏)‏‏)‏‏.‏

فصل‏:‏

ويستحب استئذان المرأة في تزويج ابنتها لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏‏(‏ آمروا النساء في بناتهن ‏)‏‏)‏ ولأنها تشاركه في النظر لابنتها وتحصيل المصلحة لها لشفقتها عليها‏,‏ وفي استئذانها تطييب قلبها وإرضاء لها فتكون أولى‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏وإذا زوج ابنته الثيب بغير إذنها فالنكاح باطل‏,‏ وإن رضيت بعد‏]‏

وجملة ذلك أن الثيب تنقسم قسمين‏:‏ كبيرة وصغيرة‏.‏

فأما الكبيرة‏,‏ فلا يجوز للأب ولا لغيره تزويجها إلا بإذنها في قول عامة أهل العلم إلا الحسن قال‏:‏ له تزويجها وإن كرهت والنخعي قال‏:‏ يزوج بنته إذا كانت في عياله‏,‏ فإن كانت بائنة في بيتها مع عيالها استأمرها قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ لا أعلم أحدا قال في البنت بقول الحسن وهو قول شاذ خالف فيه أهل العلم والسنة الثابتة‏,‏ فإن الخنساء ابنة خذام الأنصارية روت أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك‏,‏ فأتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرد نكاحه رواه البخاري والأئمة كلهم وقال ابن عبد البر‏:‏ هذا الحديث مجمع على صحته والقول به‏,‏ لا نعلم مخالفا له إلا الحسن وكانت الخنساء من أهل قباء وكانت تحت أنيس بن قتادة‏,‏ فقتل عنها يوم أحد فزوجها أبوها رجلا من بني عمرو بن عوف فكرهته‏,‏ وشكت ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرد نكاحها ونكحت أبا لبابة بن عبد المنذر وروى أبو هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ لا تنكح الأيم حتى تستأمر ‏)‏‏)‏ متفق عليه وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ الأيم أحق بنفسها من وليها ‏)‏‏)‏ وروى ابن عباس رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ ليس للولي مع الثيب أمر ‏)‏‏)‏ رواهما النسائي وأبو داود ولأنها رشيدة عالمة بالمقصود من النكاح مختبرة‏,‏ فلم يجز إجبارها عليه كالرجل القسم الثاني الثيب الصغيرة‏,‏ وفي تزويجها وجهان أحدهما لا يجوز تزويجها وهو ظاهر قول الخرقي واختاره ابن حامد‏,‏ وابن بطة والقاضي ومذهب الشافعي لعموم الأخبار‏,‏ ولأن الإجبار يختلف بالبكارة والثيوبة لا بالصغر والكبر وهذه ثيب‏,‏ ولأن في تأخيرها فائدة وهو أن تبلغ فتختار لنفسها ويعتبر إذنها فوجب التأخير‏,‏ بخلاف البكر الوجه الثاني أن لأبيها تزويجها ولا يستأمرها اختاره أبو بكر وعبد العزيز وهو قول مالك‏,‏ وأبي حنيفة لأنها صغيرة فجاز إجبارها كالبكر والغلام يحقق ذلك أنها لا تزيد بالثيوبة على ما حصل للغلام بالذكورية ثم الغلام يجبر إن كان صغيرا فكذا هذه‏,‏ والأخبار محمولة على الكبيرة فإنه جعلها أحق بنفسها من وليها والصغيرة لا حق لها ويتخرج وجه ثالث‏,‏ وهو أن ابنة تسع سنين يزوجها وليها بإذنها ومن دون ذلك على ما ذكرنا من الخلاف لما ذكرنا في البكر والله أعلم‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏وإذن الثيب الكلام‏,‏ وإذن البكر الصمات ‏]‏

أما الثيب فلا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن إذنها الكلام للخبر ولأن اللسان هو المعبر عما في القلب‏,‏ وهو المعتبر في كل موضع يعتبر فيه الإذن غير أشياء يسيرة أقيم فيها الصمت مقامه لعارض وأما البكر فإذنها صماتها في قول عامة أهل العلم‏,‏ منهم شريح والشعبي وإسحاق‏,‏ والنخعي والثوري والأوزاعي‏,‏ وابن شبرمة وأبو حنيفة ولا فرق بين كون الولي أبا أو غيره وقال أصحاب الشافعي‏:‏ في صمتها في حق غير الأب وجهان أحدهما لا يكون إذنا لأن الصمات عدم الإذن‏,‏ فلا يكون إذنا ولأنه محتمل الرضا والحياء وغيرهما فلا يكون إذنا‏,‏ كما في حق الثيب وإنما اكتفى به في حق الأب لأن رضاءها غير معتبر وهذا شذوذ عن أهل العلم‏,‏ وترك للسنة الصحيحة الصريحة يصان الشافعي عن إضافته إليه وجعله مذهبا له‏,‏ مع كونه من أتبع الناس لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يعرج منصف على هذا القول وقد تقدمت روايتنا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن فقالوا‏:‏ يا رسول الله‏,‏ فكيف إذنها‏؟‏ قال‏:‏ أن تسكت ‏)‏‏)‏ وفي رواية عن عائشة أنها قالت‏:‏ ‏(‏‏(‏ يا رسول الله إن البكر تستحيى قال‏:‏ رضاها صماتها ‏)‏‏)‏ متفق عليه وفي رواية‏:‏ ‏(‏‏(‏ واليتيمة تستأمر‏,‏ فصمتها إقرارها ‏)‏‏)‏ رواه النسائي وفي رواية‏:‏ ‏(‏‏(‏ تستأمر اليتيمة في نفسها فإن سكتت فهو إذنها ‏)‏‏)‏ وهذا صريح في غير ذات الأب وروى الأثرم عن عدى الكندي‏,‏ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ الثيب تعرب عن نفسها والبكر رضاها صمتها ‏)‏‏)‏ والأخبار في هذا كثيرة ولأن الحياء عقلة على لسانها يمنعها النطق بالإذن‏,‏ ولا تستحيى من إبائها وامتناعها فإذا سكتت غلب على الظن أنه لرضاها فاكتفى به وما ذكروه يفضي إلى أن لا يكون صماتها إذنا في حق الأب أيضا لأنهم جعلوا وجوده كعدمه‏,‏ فيكون إذا ردا على النبي -صلى الله عليه وسلم- بالكلية واطراحا للأخبار الصريحة الجلية وخرقا لإجماع الأمة المرضية‏.‏

فصل‏:‏

فإن نطقت بالإذن‏,‏ فهو أبلغ وأتم في الإذن من صمتها وإن بكت أو ضحكت فهو بمنزلة سكوتها وقال أبو يوسف ومحمد‏:‏ إن بكت فليس بإذن لأنه يدل على الكراهية‏,‏ وليس بصمت فيدخل في عموم الحديث ولنا ما روى أبو بكر بإسناده‏,‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏‏(‏ تستأمر اليتيمة فإن بكت أو سكتت فهو رضاها‏,‏ وإن أبت فلا جواز عليها ‏)‏‏)‏ ولأنها غير ناطقة بالامتناع مع سماعها للاستئذان فكان إذنا منها كالصمات أو الضحك والبكاء يدل على فرط الحياء لا على الكراهة‏,‏ ولو كرهت لامتنعت فإنها لا تستحى من الامتناع والحديث يدل بصريحه على أن الصمت إذن‏,‏ وبمعناه على ما في معناه من الضحك والبكاء وكذلك أقمنا الضحك مقامه‏.‏

فصل‏:‏

والثيب المعتبر نطقها‏,‏ هي الموطوءة في القبل سواء كان الوطء حلالا أو حراما وهذا مذهب الشافعي وقال مالك وأبو حنيفة في المصابة بالفجور‏:‏ حكمها حكم البكر في إذنها وتزويجها لأن علة الاكتفاء بصمات البكر الحياء‏,‏ والحياء من الشيء لا يزول إلا بمباشرته وهذه لم تباشر بالإذن في النكاح فيبقى حياؤها منه بحاله ولنا‏,‏ قوله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏‏(‏ الثيب تعرب عن نفسها ‏)‏‏)‏ ولأن قوله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏‏(‏ لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن وإذنها أن تسكت ‏)‏‏)‏ يدل على أنه لا بد من نطق الثيب لأنه قسم النساء قسمين‏,‏ فجعل السكوت إذنا لأحدهما فوجب أن يكون الآخر بخلافه وهذه ثيب فإن الثيب هي الموطوءة في القبل‏,‏ وهذه كذلك ولأنه لو أوصى لثيب النساء دخلت في الوصية ولو أوصى للأبكار لم تدخل ولو اشترطها في التزويج أو الشراء بكرا فوجدها مصابة بالزنا‏,‏ ملك الفسخ ولأنها موطوءة في القبل فأشبهت الموطوءة بشبهة‏,‏ والتعليل بالحياء غير صحيح فإنه أمر خفي لا يمكن اعتباره بنفسه وإنما يعتبر بمظنته‏,‏ وهي البكارة ثم هذا التعليل يفضي إلى إبطال منطوق الحديث فيكون باطلا في نفسه‏,‏ ولا فرق بين المكرهة والمطاوعة وعلى هذا ليس لأبيها إجبارها إذا كانت بالغة وفي تزويجها إن كانت صغيرة وجهان وقولهم‏:‏ إنها لم تباشر الإذن قلنا‏:‏ يبطل بالموطوءة بشبهة‏,‏ أو في ملك يمين والمزوجة وهي صغيرة‏.‏

فصل‏:‏

وإن ذهبت عذرتها بغير جماع كالوثبة‏,‏ أو شدة حيضة أو بإصبع أو عود ونحوه فحكمها حكم الأبكار ذكره ابن حامد لأنها لم تختبر المقصود‏,‏ ولا وجد وطؤها في القبل فأشبهت من لم تزل عذرتها ولو وطئت في الدبر لم تصر ثيبا ولا حكمها حكمهن لأنها غير موطوءة في القبل‏.‏

فصل‏:‏

إذا اختلف الزوج والمرأة في إذنها لوليها في تزويجها قبل الدخول‏,‏ فالقول قولها في قول أكثر الفقهاء وقال زفر في الثيب كقول أهل العلم وفي البكر‏:‏ القول قول الزوج لأن الأصل السكوت‏,‏ والكلام حادث والزوج يدعى الأصل فالقول قوله ولنا أنها منكرة الإذن‏,‏ والقول قول المنكر ولأنه يدعى أنها استؤذنت وسمعت فصمتت والأصل عدم ذلك‏,‏ وهذا جواب على قوله إن الأصل معه وإن اختلفا بعد الدخول فقال القاضي‏:‏ القول قول الزوج ولأن التمكين من الوطء دليل على الإذن وصحة النكاح فكان الظاهر معه وهل تستحلف المرأة إذا قلنا‏:‏ القول قولها‏؟‏ قال القاضي‏:‏ قياس المذهب أنه لا يمين عليها كما لو ادعى زوجيتها فأنكرته وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي‏,‏ وأبو يوسف ومحمد‏:‏ تستحلف فإن نكلت فقال أبو يوسف‏,‏ ومحمد‏:‏ يثبت النكاح وقال الشافعي‏:‏ يستحلف الزوج ويثبت النكاح ولنا أنه اختلاف في زوجية‏,‏ فلا يثبت بالنكول ولا يحلف المدعى معه كما لو ادعى الزوج أصل التزويج فأنكرته‏,‏ فإن كانت المرأة ادعت أنها أذنت فأنكر ورثة الزوج فالقول قولها لأنه اختلاف في أمر يختص بها صادر من جهتها‏,‏ فالقول قولها فيه كما لو اختلفوا في نيتها فيما تعتبر فيه نيتها ولأنها تدعى صحة العقد‏,‏ وهم يدعون فساده فالظاهر معها‏.‏

فصل‏:‏

في المجنونة إن كانت ممن تجبر لو كانت عاقلة‏,‏ جاز تزويجها لمن يملك إجبارها لأنه إذا ملك إجبارها مع عقلها وامتناعها فمع عدمه أولى وإن كانت ممن لا تجبر انقسمت ثلاثة أقسام أحدها‏,‏ أن يكون وليها الأب أو وصيه كالثيب الكبيرة فهذه يجوز لوليها تزويجها ذكره القاضي وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه جعل للأب تزويج المعتوه‏,‏ فالمرأة أولى وهذا قول الشافعي وأبي حنيفة ومنع منه أبو بكر لأنها ولاية إجبار وليس على الثيب ولاية إجبار والأول أصح فإن ولاية الإجبار إنما انتفت عن العاقلة لرأيها‏,‏ لحصول المباشرة منها والخبرة وهذه بخلاف ذلك وكذلك الحكم في الثيب الصغيرة إذا قلنا بعدم الإجبار في حقها‏,‏ إذا كانت عاقلة القسم الثاني أن يكون وليها الحاكم ففيها وجهان أحدهما‏,‏ ليس له تزويجها بحال لأن هذه ولاية إجبار فلا تثبت لغير الأب كحال عقلها والثاني‏,‏ له تزويجها إذا ظهر منها شهوة الرجال كبيرة كانت أو صغيرة وهو اختيار ابن حامد وأبي الخطاب‏,‏ وقول أبي حنيفة لأن بها حاجة إليه لدفع ضرر الشهوة عنها وصيانتها عن الفجور وتحصيل المهر والنفقة‏,‏ والعفاف وصيانة العرض ولا سبيل إلى إذنها‏,‏ فأبيح تزويجها كالثيب مع أبيها وكذلك ينبغي أن يملك تزويجها إن قال أهل الطب‏:‏ إن علتها تزول بتزويجها لأن ذلك من أعظم مصالحها وقال الشافعي‏:‏ لا يملك تزويج صغيرة بحال ويملك تزويج الكبيرة إذا قال أهل الطب إن علتها تزول بتزويجها ولنا أن المعنى المبيح للتزويج وجد في حق الصغيرة‏,‏ فأبيح تزويجها كالكبيرة إذا ظهرت منها شهوة الرجال ففي تزويجها مصلحتها ودفع حاجتها‏,‏ فأشبه ما لو قال أهل الطب إنه يزيل علتها وتعرف شهوتها من كلامها وقرائن أحوالها كتتبعها للرجال‏,‏ وميلها إليهم وأشباه ذلك القسم الثالث من وليها غير الأب والحاكم فقال القاضي‏:‏ لا يزوجها إلا الحاكم‏,‏ فيكون حكمها حكم القسم الثاني على ما بيناه وقال أبو الخطاب‏:‏ لهم تزويجها في الحال التي يملك الحاكم تزويج موليته فيها وهذا قول أبي حنيفة لأن ولايتهم مقدمة على ولاية الحاكم فقدموا عليه في التزويج‏,‏ كما لو كانت عاقلة ووجه قول القاضي أن الحاكم هو الناظر لها في مالها دونهم فيكون وليا دونهم‏,‏ كتزويج أمتها ولأن هذا دفع حاجة ظاهرة فكانت إلى الحاكم‏,‏ كدفع حاجة الجوع والعرى فإن كان لها وصى في مالها لم يملك تزويجها لأنه لا ولاية له في نكاحها والحكم في تزويجها حكم من وليها غير الأب والحاكم على ما ذكرنا‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وإذا زوج ابنته بدون صداق مثلها‏,‏ ثبت النكاح بالمسمى وإن فعل ذلك غير الأب ثبت النكاح وكان لها مهر مثلها ‏]‏

وجملة ذلك أن للأب تزويج ابنته بدون صداق مثلها بكرا كانت أو ثيبا‏,‏ صغيرة كانت أو كبيرة وبهذا قال أبو حنيفة ومالك وقال الشافعي‏:‏ ليس له ذلك فإن فعل فلها مهر مثلها لأنه عقد معاوضة فلم يجز أن ينقص فيه عن قيمة المعوض كالبيع‏,‏ ولأنه تفريط في مالها وليس له ذلك ولنا أن عمر‏,‏ رضي الله عنه خطب الناس فقال‏:‏ ألا لا تغالوا في صداق النساء فما أصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحدا من نسائه ولا أحدا من بناته‏,‏ أكثر من اثنتي عشرة أوقية وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكروه فكان اتفاقا منهم على أن له أن يزوج بذلك وإن كان دون صداق المثل وزوج سعيد بن المسيب ابنته بدرهمين‏,‏ وهو من سادات قريش شرفا وعلما ودينا ومن المعلوم أنه لم يكن مهر مثلها‏,‏ ولأنه ليس المقصود من النكاح العوض وإنما المقصود السكن والازدواج ووضع المرأة في منصب عند من يكفيها‏,‏ ويصونها ويحسن عشرتها والظاهر من الأب‏,‏ مع تمام شفقته وبلوغ نظره أنه لا ينقصها من صداقها إلا لتحصيل المعاني المقصودة بالنكاح‏,‏ فلا ينبغي أن يمنع من تحصيل المقصود بتفويت غيره ويفارق سائر عقود المعاوضات فإن المقصود فيها العوض فلم يجز تفويته فأما غير الأب‏,‏ فليس له أن ينقصها من مهر مثلها فإن زوج بدون ذلك صح النكاح لأن فساد التسمية وعدمها لا يؤثر في النكاح‏,‏ ويكون لها مهر مثلها لأنه قيمة بضعها وليس للولي نقصها منه فرجعت إلى مهر المثل والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏

وتمام المهر على الزوج لأن التسمية ها هنا فاسدة لكونها غير مأذون فيها شرعا‏,‏ فوجب على الزوج مهر المثل كما لو زوجها بمحرم وعلى الولي ضمانه لأنه المفرط فكان عليه الضمان‏,‏ كما لو باع مالها بدون ثمن مثله قال أحمد‏:‏ أخاف أن يكون ضامنا وليس الأب مثل الولي ولا تملك المرأة الفسخ لأنه قد حصل لها وجوب مهر مثلها والله أعلم‏.‏